قوة الحق يرفعها صوت المؤذن
خرج سكان بغداد اشتاتا ، وفرادى ، وقرانى ، يقضون حوائجهم ، يبيعون ويشترون ، وكان ذلك زمن الخلافة العباسية . وبينما هم مشتغلون في أعمالهم
إذا بصوت يخترق أذانهم ، صوت رجل يبكي بكاء الثكلى ، ويصيح بأعلى صوته ، أيها المسلمون .. عباد الله .. هلموا إلي ، واسمعوا قصتي مع الزمن
، قصة مظلوم نبأ به الدهر ، ولم ينصفه الزمن ، وأقبل إليه الناس يستطلعون خبره ، فرأوا رجلا أشعت ، أغبر ، يبكي بدموع غزار ، ويشكو ظلم الظالمين .. وقال : لقد كنت فقيرا ، محتاجا ، معدوما ، لا أكاد أجد شيئا أتقوت به أنا ، وأفراد أسرتي ، فقررت السعي طلبا للرزق الحلال فجست خلال البلدان ، أعمل و أشقى و أتاجر .. و دانت رحلتي في طلب الحلال أعواما طوالا خلتها قرونا طويلة . فأفاض الله علي من جوده شآبيب النعم ، و صرت من كبار التجار ، وسادة القوم .. و لكن لم أكد أتخلص من هموم الفاقة حتى ابتدأ الزمن ، يخيط لي محنا أخرى ، فقد سرى الى قائد شرطة بغداد داء الحسد .. فنصب لي حبائل مكره ، ودبر لي المكائد ، فأخذ مالي عنوة . فمن ينصفني ، و يأخذ لي حقي منه ؟ و لكن من إن سمع الناس القصة حتى طووا عنه كشحا .. وضربوا عنه صفحا خوفا من إنتقام قائد الشرطة . فقائد الشرطة رجل معروف بظلمه . رجل سارد في طغيانه ، وبغيه لا يخاف الله ، ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ، يعيش و جنوده على السطو والسرقة ، و لم يجرؤ أحد أن يقف ضده ، فقد ضج الناس من مظالمه ، وبكت الأمة من شروره ، فالويل ثم الويل لكل من تسول له من نفسه أن ينبس ببنت شفة ، أو يترمرم بلفظة أمامه ، أو أمام جنده ، فمصيره مائة سوط تنزل على ظهره ، أو ربما مصيره السجن بتهمة الخروج على السلطان ، و المؤامرة ضد الخلافة . وغدا التاجر إلى القاضي ليرفع مظلمة ضد من ظلمه ، ولكن ما إن سمع القاضي الشكوى ، حتى أصابه الدهشة ، و انتابه الذهول ، و وجد في نفسه غير قادر أن يفعل شيئا ، وقال للتاجر أنصحك يا أخي أن تفزع إلى الله ، وتدعوه أن يخلصك من هذه المحنة ، فأنا عاجز كل العجز أن أفعل شيئا ، فاصبر . و خرج التاجر من عند القاضي مخذولا . باكي العينين ، لا يكاد يصدق ما يحدث و يمم وجهه شطر المسجد ، فجلس على عتبته ، فإذا برجل تقدمت به السن يقف بجانبه ، و يربت على كتفه ، و يقول له : ما بك يا عبد الله ، ومالي أراك حزينا ، مهموما ظ ، تحدث و أفصح عن بنات نفسك ، وذوات صدرك، فلعلي أقدم لك يد المساعدة ، فتعجب التاجر من أمر الشيخ ، و قال له : كيف تساعدني أيها الشيخ ... وأنت رجل لا حول لك ولا قوة ، وكيف يسمعك ظالمي ؟ و قد عجز قاضي القضاة أن ينصفني منه ، دعني أيها الشيخ و شأني ، أتريدني أن أتعلق بخيوط واهمة لا تسمن ولا تغني من جوع ، قال الشيخ : يا عبد الله دعك من الكلام ، وخذني إلى هذا الذي ظلمك ، و سترى بأم عينيك ، كيف أسترد لك حقك منه ، قال التاجر ضاحكا من سذاجة الشيخ : و الله إني لأراك رجلا مغرورا ، فالذي سلبني مالي و أخذ حقي ، أتدري من هو أيها الشيخ ؟ إنه رئيس شرطة بغداد ، قال : وما يضيرك إن ذهبت معك ؟ قال التاجر : كيف تلقى بنفسك إلى التهلكة ، و أنت لا تدرك مغبة المخاطرة بنفسك ؟ و إن هذا الرجل لا يرعوى لواعظ واعظ ، ولا يستمع لنصيحة ناصح ، و إني لمتأكد ، بأنه لا يعبأ بك ، بل مجرد أن يراك ، وبهذه الأثواب الرثة سيلقي بك في غياهب السجن ، أو ربما سيقتلك ، قال دعك من هذا الكلام الذي لا يجدي ... و هيا بنا ... قال التاجر في قرارة نفسه ، ماذا أخسر ؟ سأذهب مع الشيخ ، و سأرى بأم عيني ما يحدث ....
و صل الشيخ و التاجر دار الشرطة ، وما إن رأى رجال الشرطة الشيخ ، حتى أنتابهم الذهول ، وعقد الحصر ألسنتهم ، وقالوا بلسان واحد مرحبا بشيخنا الجليل ، حللت أهلا ، ونزلت سهلا ، ولما يا سيدنا الشيخ ، لم لم تخبرنا حتى نستعد للقائك لقاء يليق بمقامك ؟ ثم قال الشيخ : أين قائدكم ؟ قالوا في الداخل . قال : ادعوه إلي ،فلما رأى قائد الشرطة الشيخ حتى امتقع لونه ، وقال : شيخنا الجليل بنفسه ، بلحمه ، بعظمه ، يشرفنا ، فلم تجشمت كل هذا المشاق ؟فما كان عليك إلا أن ترسل إلينا فنأتيك ن فأنت أحرى أن تؤتى لمكانتك الرفيعة لا أن تأتي .
قال الشيخ : لا أريم مكاني حتى تعيد للرجل حقه ، و الآن ، فكيف تتجرأ أيها الرجل على ظلم الناس ، و تطمع في أموال ليست من حقك ؟ فلقد تماديت في أضاليلك . ألم تجد وسيلة أخرى تدر عليك المال إلا بالنهب . ويحك وهل آمنت مكر الله ؟ وماذا بعد المال ؟ و ماذا إن ملكت الدنيا كلها ؟ فهل تغني عنك من الله شيئا ؟ فأين قارون ، و أين فرعون و أين هامان ؟ ألم تقرأ قول الله تعالى : ( و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين ، مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم و أفئدتهم هواء ) .
ألم تسمع قول الشاعر :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ******* فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيناك و المظلوم منتبه ******* يدعو عليك و عين الله لم تنم
قال قائد الشرطة : كفى يا شيخنا الجليل ، فأنا طوع أمرك ، فكل ما تطلبه سيكون رهن إشارتك ، أرجو أن تعذرني ، وتعفو عن زلتي ، فلن أعود أبدا إلى ظلم الناس ما حييت . وتعجب التاجر غاية العجب من هذا الموقف .
وبعد أيام من هذه الحادثة هرع الرجل إلى المسجد ليشكر الشيخ و يجازيه عن موقفه ذلك ، فوجده جالسا في المسجد – يجلله الوقار – و تكسوه الهيبة . تقدم نحوه وسلم عليه ، وقدم له مائة دينار . ولكن الشيخ رفض العطية ، و اعتبر ما فعله واجبا يقتضيه الدين ... قال التاجر : أيها الشيخ الفاضل بقيا سؤال واحد يدور بخلدي ، ولم أجد له – إلى هذه اللحظة – تفسيرا قال الشيخ ما هو يا بني ؟ قال : كيف استطعت أن تسترد لي حقي من ذلك الظالم الذي عتا ، وتجبر و استأسد على الضعاف ؟ قال الشيخ : اعلم يا بني بأني مؤذن في هذا المسجد منذ سنين طوال ، زفي ذات يوم بينما كنت أنظف ساحة المسجد ، إذ بامرأة تصيح بأعلى صوتها و تبكي بكاء الثكلى تقدمت نحوها ، وسألتها ما بك يا أمة الله ؟ وماذا أصابك ؟ ولم تبكين ؟ قالت : أيها الشيخ الجليل , فأنا ابتليت بما تعجز عن حمله الراسيات ، فقد مشيت بغداد طولا وعرضا ، وجست خلال أحيائها حيا ، حيا ، باكية العينين ، حافية القدمين ، أشكو ظلم الظالمين ، ولم أجد من ينصفني . فالأبواب سدت في وجهي ، قلت من هؤلاء الذين ظلموك ؟ وكيف يتجرؤون على ظلم امرأة ضعيفة ، لاحول
لها ولا قوة ؟ قالت : إنه قائد شرطة بغداد وجنده سلبوا مالي ، وأخذوا داري ، فتأثرت كثيرا لحال المرأة ، وبكيت ، ولكن كيف أعيد لها حقها ؟ وأنا مجرد مؤذن فقير لا أملك من حطام الدنيا شيئا . فكرت كثيرا ، وبعد تفكير قررت على فعل شيء لم يسبقني إليه أحد ، وماذا لو أذنت ؟ وكان الوقت غير وقت صلاة فأذنت . وماهي إلا لحظات قلائل حتى استدعاني الخليفة ، وكان رجلا عادلا ، وقال لي : ما ذا دهاك أيها المؤذن ، ولم أذنت في وقت غير وقت صلاة ؟ قلت يا أمير المؤمنين ما كان لي أن أتجرأ ، وأفعل هذا ! ولكن لما رأيت سفينة الحق في بحر مضطرب الأمواج ، ورأيت ظلم الانسان لأخيه الانسان أذنت ، فهذا هو سلاحي الوحيد الذي أملكه ، قال ويحك أفصح ، ماذا تقول ؟ فأنا لم أفهم شيئا ، قلت يا أمير المؤمنين هل أفصح ولي الأمان ؟ قال نعم ، فحدثته عن أمر المرأة المسكينة ، فانتفض الخليفة كأنه الصقر ، وقال أيحدث هذا في بغداد وأنا لا أدري ! ويح قائد الشرطة وأتباعه . أبلغت به الجرأة أن يظلم الضعفاء ، ويستأسد على الرعية ؟ ويحه ! ثم أمر الخليفة بإعادة حق المرأة ، وإقالة القائد ، وشرذمته الظالمة ، ثم قال الخليفة : أيها المؤذن من هذه اللحظة ، كلما أحسست بظلم أرتكب في حق أي فرد من أفراد الأمة ، فأعلنها مدوية دون خوف ، أو وجل . وتلاشت أحلام الظلمة وحضدت شوكتهم ، وأصبح الناس في مأمن من شرورهم بفضل الدوي المبارك الذي أصبح هاجسا ، يقلق مضاجعهم ، ولم يعد هناك ظلم البتة . فالكل يخشى أن يؤذن في وقت غير وقت الصلاة